عمان في عيون الأدباء العراقيين
صفحة 1 من اصل 1
عمان في عيون الأدباء العراقيين
2011/02/14
عمّان في عيون الأدباء العراقيين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
نحو إبراز صورة المكان في الرواية العراقية
عمّان في عيون الأدباء العراقيين
إياد نصار
* نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية عدد 264 لشهر كانون ثاني/يناير 2011
لا يسعى أدبُ
التعبيرِ عن المكان وتوظيفاتُه الى مجرد إبرازِ اكتشافِ الدهشة، أو البعد
التاريخي، أو المفارقة المكانية، أو إظهار التعبيرِ عن الحب، أو
الانتماءِ، أو الكراهيةِ، أو الحيد وحسب، وذلك في إطار البحثِ في علاقة
الأديبِ بالمكان وبالآخرينَ في فضاءات المكان، بقدرِ ما يسعى إلى خلق
وإبراز علاقةٍ تفاعلية مع المكان واستشعارِ تأثيرِه المادي والنفسي
والروحي، والى مَلءِ حيزٍ كبيرٍ شاغرٍ في الوجدان صنعته مرارةُ الغربة، أو
الحنينِ إلى الوطن، أو التعبيرِ عن عشقِِ المكان لذاته، أو الحاجةِ
الإنسانية للتعويض عن حنانِ الوطن المفقود، فيصنعُ الأديبُ من المكانِ
وطناً فعلياً أو رمزياً، يبثه المناجاةَ والبوحَ وإعلانَ الارتباط به، أو
يسعى إلى إبرازِ موقعِ الأديبِ منه، أو توظيفِ دلالاتِ المكان في السياق
الروائي أو الشعري. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسه هو ما مدى هذه العلاقةِ التي
تجمعُ الأدباءَ العراقيين بعمان؟ هل هي عابرة؟ هل هي تعويضٌ قسريٌ مؤقت عن
الفردوسِ المفقود؟ هل هي التعبيرُ عن الجنةِ الموعودةِ أمامَ جحيمِ النفي
والغربة ونكرانِ الوطن؟ هل هي تعبيرٌ إنسانيٌ خالصٌ بحد ذاته بين عاشقٍ
متيّمٍ وفاتنةٍ تفرضُ حضورَها حتى يجدَ المبدعُ نفسَه أسيرَ حكاياتِها
التي تطولُ كحكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة؟
إن علاقةَ عمان
بالأدباءِ العراقيين ليست طارئةً، ولا وليدةَ اللحظة، ولا قسريةً، ولا أظن
أنها عابرةٌ فيما اطلعتُ عليه من نصوصٍ نثريةٍ وشعرية، وسمعتُه من بوحٍ
متواصلٍ بصوتٍ عال. ولم تبدأْ هذه العلاقةُ مع الخروجِ الكبير للمثقفين
العراقيين من العراق في عهدِ النظام السابق والتي تسارعت وتيرتُها منذ
تسعينياتِ القرن الماضي. فقد كتب القاص والروائي العراقي عبد الستار ناصر،
الذي عرفته عن قرب، وأحسستُ أنه لا يستطيع أن يكتمَ حديثه عن المدنِ عشقاً
أو نفوراً، سكينةً أو ضيقاً: "جئتُها أولَ مرةٍ زائراً في عام 1964،
أتذكرُ أن فندق فيلادلفيا [أقدمُ فنادقِها منذ عام 1925 إلى أن هُدم في
عام 1988] كان قربَ المدرج الروماني، ولم تكنْ عمان آنذاك كما هي عمان
اليوم. كانت عاريةً من البنايات العالية والمتاجر الكبرى والابراج، ليس
فيها أنفاق ولا جسور معلقة... أظنها كانت أصغرَ عواصمِ الدنيا".
وكتب الأديبُ
والروائي العراقي جمعة اللامي "هذه إذن عمان.. كم تبدلتْ وتغيرتْ هذه
المدينة منذ فارقتها في شهر سبتمبر / أيلول سنة 1970" وذلك في سياق ما
نشره كجزء من حديث الذاكرة في شهر آب/أغسطس عام 2002 في مقالة بعنوان
"أيام في عمان" في جريدة الخليج الإماراتية، وكان بذلك يشير الى تلك السنة
عندما غادرها في عام 1970 بعد أن كان ينزل كما قال في: "دارةٍ فخمةٍ في
جبل التاج"، التقى فيها بالدكتور منيف الرزاز خلالَ تلك الفترةِ العصيبةِ
من تاريخِ المدينة.
وأعادت له
الذكرياتُ في ثلاثةِ مساءاتٍ متتاليةٍ قضاها في عمان في عام 2002 في بيتِ
القاص والكاتب علي السوداني، رحلةَ ثلاثةِ عقودٍ من الزمن، ووصفَ عمان
بأنها "مثآبة لشاعرٍ يغادرُ صالاتِ الاحتفالات الصاخبةِ، وبطاقاتِ
الاحزاب، ورشى المثقفين السلطويين". وقال إن علي السوداني اختارَ أن ينزلَ
قريبا مما يسميه هو "وادي السيل" في عمان. ولعل تسميةَ سقفِ السيل بدت
غريبةً له او لقارئه العربي فاستبدلها بوادي السيل، فما كان ذاتَ يوم
يعدُّ سيلَ عمان الجاري من رأس العين والذي كانت تحيطُ به أشجارُ الحورِ
والسنديانِ والسرو، قد شارف التلاشي وغُطِّيَ سقفُه بسطحٍ خرساني، وتحول
مجرى السيلِ إلى شارعٍ علوي مسقوفٍ تمر بقايا السيل الآيلِ للفناء من
تحته. يكتب بما يوحي بتلك الدرجةِ من الألفة والمعرفة والحميميةِ التي
ربطت بين السوداني وعمان: "إنه اختار بقعة لا يهتدي إليها أعرق قصاص أثر
في العاصمة الأردنية، بينما يعرف جغرافيتها بدقة ذلك العفريت العراقي الذي
نافس الهدهد في تتبع عرش بلقيس". من الواضح أن قولَهُ ينم عن تلك الطبيعة
المتداخلة والمتشابكة والصعبة لتفاصيل المدينة وتضاريسها، التي لا تمنح
ذاتها بسهولة لزائرها، وربما يكون قد وضعَ يدَهُ من غيرِ أن يدري على
مشكلةٍ كانت تؤرقُ سكانَ المدينة وزوارَها وضيوفَها منذ عقودٍ، وهي تشابكُ
وتداخلُ الطرقِِ والشعابِ ومداخلِ المدينة ومخارجِها، أضف الى ذلك غيابَ
الترقيمِ وتسميةِ الشوارعِ الفرعيةِ، والذي تمّ بشكلٍ جميل في السنتين
الاخيرتين بعد محاولاتٍ سابقةٍ غيرِ ناجحة، وما زلنا نواجُهُ ثقافةً
شعبيةً مترسخة تصنعُ الأسماء للأماكنِ بعفويةٍ من واقع علاقةٍ سابقةٍ على
العلاقة الرسميةِ بالمكان، ومن واقع معرفةٍ لصيقةٍ بمكونات المكان، من
غيرِ أن تنتظرَ علاماتِ الترقيم، ليس في الكتابة ولكن في التخطيط المدني!
لقد صار تعبيرُ
"بغدادُ انتقلت إلى عمان" مألوفاً أن تسمعَهُ يترددُ بين الأدباء في عمان.
ففي معرضِ عمّان الدولي للكتاب قبل أربعِ سنوات الذي كان زاخراً ومتألقاً
بالعناوين العراقية وحضورِ الأدباء العراقيين فقد كتب أحدُهم: "وفي لحظة
اللقاء الجماعي غير المتوقعة، بدا للجميع كأنَّ بغداد انتقلت الى عمّان".
وكتب الشاعرُ والصحافي العراقي المقيمُ في لندن حكمت الحاج خلال زيارته
لعمان: "بعد أن أسمتها الحروبُ رئةَ العراق، عمّان عاصمةً للثقافة
العراقية". وقال: "أينما حلّ العراقيون يؤسسون مدينتَهم الفاضلةَ المكونةَ
من مقهىً، ومنبرٍ ثقافي، ومطعمٍ للكباب، ... وهذا ما فعلوه في عمّان".
تستهوي حكايةُ
عمان الأولى التي ولدتْ مع فجرِ تاريخها، الذي رسم العمونيون القدماءُ
معالمَه، مثلما هي آثارُها العمونيةُ والرومانيةُ القديمةُ كجبل القلعة
وسبيل الحوريات، الأدباء العراقيين، ويشعرون كأنما يدللون المدينة بنسبتها
في كتاباتهم إلى ربّتها الأولى عمّون.
ففي كتابه
"مكاتيب عراقية"- الجزء الثاني الذي صدر في عام 2009 عن دار فضاءات للنشر
والتوزيع في عمان، يردد علي السوداني اسمَ عمون أو ربةِ عمون عشراتِ
المرات، لا بل إنه يصفُ تفاصيلَ المكان ويسردُ تاريخَه كأنما هو مؤرخٌ أو
رحّالةٌ شغفه المكانُ فأقام فيه. ولم أجدْ في كل قراءاتي عن عمان القديمة
ما هو أكثرُ ابتهاجاً باكتشافِ الأسطورة وأكثر حيويةً وجرأةً تحتفي
بالمكان، قد لا يجرؤ كثيرون من أهلها على البوح بتفاصيل مغامراتِهم في هذه
الأزقة والخبايا من أسواقها وحواريها ودروبها من كتاباتِه هو. كتب بلغة
العارف على نقيض اللامي الذي سماها وادي السيل: "جاءت بي قدماي إلى منطقةٍ
شعبيةٍ عتيقةٍ مزروعةٍ عند حاشيةِ قلبِ الربة عمون، اسمُها سقفُ السيل
وقيل إنّ لقبَها الذي ولدت عليه كان السيلُ فقط، قبل أن يجفَّ ويتلاشى
وتنضبَ أمواهُه وتموتَ أشجارُه وتغربَ نزهاتُه ويسخنَ هواؤه وتضيعَ بهجتُه
بعد أن تمّ سقفُ ما تبقى من خريرِ أيامه بالقيرِ وبالاسمنتِ وبالمشاةِ
وبالدكاكين لتطوى أخيرُ صفحاتٍ ندياتٍ من نهير عمان الوحيد. في الأسبوع
الفائت كنتُ في غزوة هناك، هواها المعلنُ هو شراءُ قندرةٍ "نص عمر"
ومثلِها بنطالٍ أو بنطلونٍ أو بنطرون افرنجي وقميصٍ أحمرَ وثانٍ أصفرَ
وثالثٍ أسودَ سارتديه تالياً في الأيام المبهجة. عثرت على ما أردت واشتهيت
بأثمانٍ سلسةٍ كأنها "أخو البلاش" بعدما متّعتُ عينيّ بوساطةِ التلصّصِ
على باب سينما "ريفولي" وحمّامِها المشهورِ وفقاً لرواية ثقةٍ من صاحبي
القصّاص العمّوني جمال القيسي، ومنها الى قبوٍ ينخسفُ تحتَ الارض بمقدارٍ
رأيته أقلَّ من ثلاثةِ أمتارٍ ومنه الى باب سوق الخضار الشمالي الذي
تنوجدُ على هامشه سوقٌ معروفةٌ باسم سوق الحرامية وهي تسميةٌ منفرة وقعتُ
عليها في غيرِ حاضرةٍ وعاصمةٍ عربية".
ولكنه لا يتركُ
تفاصيلَ كثيرةً من معالم عمان وأحيائِها ودكاكينِها ومقاهيها وعاداتِها
تمرُّ من أمام ناظريه دون أن يلتقطَها قلمُه بلغة عربيةٍ خاصةٍ به وصارتْ
من ملامحِ إبداعه يحس فيها القارىءُ المطلعُ طرافةَ وسخريةَ الجاحظ في
بخلائه، وبديعَ الحريري وسجعَه في مقاماته، وفخامةَ القلقشندي في صبح
الأعشى في صناعة الإنشا، وسرديةَ ابن بطوطة الجغرافية في تحفة النظار،
لكنها تطرحُ مضامينَ عصريةً للمدينة.
المدن كالذكريات
فمنها ما يكون ثقيلَ الوطأة كالكوابيسِ أو خفيفاً جميلاً كالأحلامِ
الهانئة، ومنها ما يخرجُ من الذاكرة كما دخلها دون أن يتركَ في لوحتها ولو
كلمة، ومنها ما يستوطنُنا فيعيشُ معنا وكلَّ يومٍ يمضي يصبحُ كالنبيذ
المعتق، الذي كلما طال أمدُه زادت قيمتُه وتعلقنا به أكثر. وقد اعتبر عبد
الستار ناصر أن عمان قدرُهُ منذ أن جاءها مقيماً عام 1999 "هل تراني أحببت
عمان؟ كيف تمكنت من البقاء بين أسواقها وبيوتها وشوارعها وحاناتها وجبالها
ومقاهيها ومكتباتها كلَّ هذا الوقت؟ سبعٌ وثمانون ألفاً وستمائةُ ساعةٍ
وأنا بين أحضانها أشمُ عطرَها ويزدادُ أصدقائي فيها يوماً بعد يوم، أصحو
وأنام على شهيقها وأشجارها، لا فرق عندي بين شارع السلط وشارع الرشيد، لا
فرق بين مقهى السنترال ومقهى الشابندر".
في كتابات عبد
الستار ناصر عن عمان هناك عنصر الغموض الذي يدفعك للبحث عن أسرارها
وخفاياها وبواطن تاريخها، بل إنه يقفُ عاجزاً عن إدراك سببِ هذا الحنين
الغريب الى المدينة عندما تكونُ فيها وتشتاقُ إليها. وتصبحُ الذكريات
العمانيةُ عنده أكثرَ من مجرد نوستالجيا إلى سنوات العمر الماضية أو الى
سعادة عاشها في أحضان المدينة، بل تصبحُ الذكريات جسوراً للتواصل بين
بغداد وعمان، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الماضي والحاضر وبين اندفاع
الشباب وبين حكمة الكبر، كما يقدمها في تلك الثنائيات المتقابلة التي يرى
فيها صوراً بغدادية في عمان ويرى في الوقت ذاته صوراً عمانية في بغداد.
المكان في أدب عبد الستار مبهم غامض جميل لا يمنح نفسه لعاشقه بسهولة،
لدرجة أنه قال "عشت في بغداد أكثر من نصف حياتي وما زالت تبدو مبهمة
بالنسبة لي حتى اليوم". ولكنه عاشقٌ متمرسٌ مثابرٌ بلا كلل في التعرف إلى
حياة المدينة، وسبر غموضها وتعدد حالاتها التي تنعكس على حالاته النفسية.
يقول: "مدينة يتبدل ثوبها في الربيع وفي الخريف حتى لتظن أنها ليست تلك
السيدة التي جاءتك في الصيف والشتاء".
حين تحدثت
الأديبة والروائية العراقية لطفية الدليمي في حفل توقيع كتابها "يوميات
المدن" في رابطة الكتاب الأردنيين في مساء العشرين من شهر آب 2009، فقد
قالت كلاماً مؤثراً عن عمان. ولكي لا يبدو الأمرُ نوعاً من المبالغة
والمجاملات عند عقد المقارنة مع باريس التي كانت في فترة من الأوقات محج
المثقفين والمنفيين واللاجئين السياسيين العرب، فقد طرحتْ مسبقاً في
كتابها الأسئلةَ التي يمكن أن تردَ الى أذهان مستمعيها وتنطوي على عدم
التصديق أوالتكذيب أو الاتهام بالجنون. ألقت هذه التساؤلاتِ والشكوكَ على
ذاتها فقالت: "أمجنونة أنتِ؟ أواعيةٌ أنتِ لما تقولين؟ تقايضين باريس
بعمّان؟ وتجيب: "أتظنون أنها مقايضة بشرية؟ ألا يخطر لكم أنه خيار روحي
يقوم على الزهد بالمباهج؟ وتحدثتْ بمرارةٍ وبشيء من التفصيل عن البرودة
الباريسية الخطرة، عن بلاد تموت من البرد حيتانها كما قال الطيب صالح، حيث
لا أحد يهتم بك اذا لم تكن منتميا لاحزاب أو منظمات دولية تساندك. وذكرت
أيضا في حوار أجراه الزميل الأديب جعفر العقيلي أنها عانت الأمرين من
فقدان الأمن وانتشار الجرائم والسرقة التي كانت هي نفسُها إحدى ضحاياها
على أيدي عصابات كانت تملأ الحي الذي سكنت فيه من غير أن تدري: "لقد
أشبعوني رعباً وأذى وجراحاً ومنحوني يقيناً جازماً أن لا مكان لي في هذه
المدن ذات قلوب الحجر". وبأسلوب التضادات والثنائيات الذي توظفه كثيراً في
كتابها ومحاورة الذات ومواجهتها بالأسئلة المصيرية عن الأمن والخوف،
والإحساسِ بفقدان الهوية واستعادتِها، وإيقاعِ الحياة الآلي السريعِ
ورتابةِ المشهد البطيء الذي يمتليءُ حرارةً إنسانية، لا تترك لطفية
الدليمي مجالاً للشك أن لعمان بورودها وياسمينها ومطرها وكلماتها الدافئة
حباً خاصاً في قلبها وقد أعادت لها الروحَ بعد أن كادت تختنقُ في محنة
التشرد والنفي بين عواصم العالم ومدنه.
ولاحظتُ أن لطفية
الدليمي استخدمت مرة أخرى قصةَ الأسطورةِ العمونية في إقامةِ وشائجِ حبٍ
وأواصرِ قربى بين ربات الأساطير السومرية إينانا سومر ربةِ الخصبِ والجمال
ونيسابا ربةِ المعرفةِ والكتابةِ السومرية وبين ربة عمون. وإذا كان
السوداني قد جذبه قاع المدينة بزواياه وأسواقه الشعبية وأدراجه وحاناته،
فإن لطفية الدليمي قد جذبها مطرُ عمان وقهوتُها ورائحةُ أشجارها وترابُها
المندّى بالزهر في أحيائها الغربية.
عمان في عيون
لطفية الدليمي مدينةٌ عذبةٌ وسط مرارةِ المدن المبتلاة. وهي الحانية
والشافية من متلازمةِ النفي والغربةِ والعذاب. تبدو في نظرها مصدرَ حنانٍ
أسطوري بعد سنواتٍ من الترحال والغربة والخوف من الوِحدة. ووجدتْ فيها
شيئاً آخرَ غيرَ الاصدقاء والشوارع والمباني والأسواق، وهو فتوتها
وانفتاحها على الآفاق الإنسانية والثقافية، فأقامت علاقةً مع مدينة لا
تقوم على المقتنيات والماديات بل على البساطة. كتبت في الفصل الاخير من
كتابها "يوميات المدن" وتحت عنوان "عمان التي تتقن صياغة المطر" تقول:
"عودي إلى شرق الشموس ورقص الفصول في سفوحها. مزقي فرمان اللجوء المذل
وامسحي كدمات الجسد برحيق أعنابها وعالجي جرح التغرب بهبوب نسيمها الرائق
فوق الضاحية أو في حي أم السماق أو في تلاع العلي، عودي إلى دوار الحاووز
وجالسي أحلامك على مصطبةٍ تعانقُ أغصانَ الليلك، أو استدعي الصحوَ بفنجان
قهوة فادحِ الشذا عند الفاروقي أو في (فيلا كافيه)".
أما الأديبة
العراقية البريطانية أمل بورتر وفي حفل توقيع رواياتها الثلاث: "دعبول"،
"سوسن وعثمان"، و"نوّار"، والنّسخة العربيّة لكتابها "مذكّرات أميرة
بابليّة- ماري تيريز أسمر"، والذي أقيم في شهر نيسان من العام الماضي في
قاعة المدينة في مبنى أمانة عمان الكبرى في رأس العين، وحضره عدد من
المثقفين والأدباء الأردنيين والعراقيين، فقد ذكرت أن عمان جذبتها ووجدت
فيها مدينة فتية وعاصمة حديثة نسبياً. ولكنها تضجُّ بحراكٍ ثقافي أكبرِ من
عمرها.
يتكررُ توظيفُ
عمان في الكتابات العراقية بين ثنائية صورة المقر وصورة الممر. وإذا كانت
عمان كما قيل في فترة من الفترات رئةَ العراق ومنفذَه إلى العالم الخارجي
خلال سنوات الحصار، فقد عكست بعض الأعمال هذه الصورة التي تصبح عمان فيها
مجردَ محطةِ عبورٍ نحو الحرية، أو الحلم أو الاغتراب أو الهروب من جحيم
الداخل. في رواية "رقص على الماء" (أحلام وعرة) للكاتب العراقي المقيم في
السويد محمود البياتي والتي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في
عام 2006 ، فإن عمان هي مجرد محطة لعبدو العراقي الذي سيحضر من السويد
للزواج من بنت خاله التي ستحضر من بغداد، وكما تقول الرواية "إنقاذاً لها
من جحيم الحصار في العراق".
وفي روايته
الأولى "حليب المارينز"، يقدم عواد علي عمان في صورة الممر أيضاً. سامر
الأربعيني اللاجيء في مخيم رفحا للاجئين العراقيين يساعده صديق سعودي في
الهرب من المخيم فيجد نفسه في الساحة الهاشمية في عمان، التي يبقى فيها
ثلاثة اشهر متخفّياً يبحثُ عن مخرجٍ الى الحرية والبحث عن علاج لضمور
كليتيه. وأخيراً جاء المخرجُ عبر مزوّرٍ للجوازات الذي استطاع من خلالِه
أن يحصل على فيزا الى قبرص، ومنها إلى بيروت قبل أن يصل كندا محطته
الأخيرة.
كما يتناول صورةَ
المدينة في مشهدٍ آخر من مشاهدِ عمان الممر. فساهر الشاب الفنان النحات
يرسلُ لأخيه الاكبر سامر مع أمه التي تأتي الى عمان منحوتةً صغيرةً لإمرأة
يحط على رأسها طائرُ رخمة ويشبك مخالبَه على وجهها، فيلتقيان في عمان، ثم
لا يلبث أن يحمل سامر معه المنحوتة الى كندا، وهناك تعجب بها روزا
العراقية التي انتهى بها المطاف مهاجرة أيضاً إلى كندا فيهديها إياها كرد
للجميل.
أما القاصةُ
والروائية هدية حسين فانها تجعلُ من عمان مسرحاً لروايتها "ما بعد الحب"
التي أصدرتها عام 2003، رغم أن تداعي الذكريات يعود بنا في كثيرٍ من
الاحيان الى العراق لاستعادة ماضي الشخصيات وإبرازِ مشاهد المعاناة في
الوطن. وهي من الروايات القليلة التي تعطي عمان مساحةً كبيرة تتعدى مجردَ
كونها مكاناً حاضناً للشخصيات والحدث. "ما بعد الحب" شخصياتها عراقية
وأردنية، تربط بينهم علاقات مختلفة في أماكن متعددة من عمان. لم يعد
أبطالها عراقيين وحسب، بل هناك شخوص أردنية رئيسة لها مشكلاتها وواقعها
القاسي ومعاناتها النفسية التي تنجح الكاتبة أن تجعلها لا تقلُّ تشويقاً
وتعاطفاً من القارىء معها مثل سميحة وأخيها الموسيقي الكفيف سامح. ولكن
المدينة لم تعد مجرد ممرٍ نحو بوابة الحرية أو الهجرة أو الهروب، بل هي
ممر ومقر مفتوح على احتمالات متعددة في الوقت ذاته. تلتقي هدى الهاربة من
العراق ـ لخوفها من البطش لأنها قالت (لا) للزعيم ـ بنادية في مصادفة غير
متوقعة، وهما في خضم البحث عن ملابس قديمة. تنتظر هدى ونادية موافقة
المفوضية على اللجوء إلى دول أخرى، ولكن المسألة طويلة ويتكرر الرفض مرات
كثيرة، وهكذا تضطران للبقاء والتكيف مع الحياة الجديدة في عمان. وإذا كانت
الساحةُ الهاشمية هي مكان اللقاء عند عواد علي بصفتها المحطة الرئيسة التي
ترتبط في أذهان الأردنيين والعرب بوسط المدينة، فإنها في "ما بعد الحب"
تصبح مجمع العبدلي المكتظ بالسيارات والناس وباعة الملابس المستعملة
والمتسولين وباعة الخضار وأكشاك الأكل السريع. تبرز الرواية الصورة
النمطية للمدينة في أذهان الكثيرين الذين تتكرر وتتشابه حكاياتهم ومآسيهم،
والتي تلخصها الرواية في نقطتين: إنها بوابة الهروب من الجحيم، وهي مدينة
قاسية ليس فيها فرص عمل للقادمين. تورد الرواية أسماء عددٍ من الاحياء
والأماكن التي تجري فيها أحداث الرواية في المكان الأردني، مثل جبل
الحسين، وجبل عمان، والجندويل، وطلعة المصدار، ومقبرة سحاب، وسقف السيل،
وغيرها. تبدو عمان في الرواية مكاناً بعيدا عن الرومانسية والبهجة كما هو
الحال في يوميات لطفية الدليمي، بل تصبح فضاءً للمعاناة بصور عدة من مثل
ظروف السكن البائس، وصعوبة التنقل، والغلاء، والأعمال الوضيعة التي تسبب
الإحساس بالذل، عندما تجبر الظروف هدى لتعملَ خادمة ترعى شؤون سامح
الموسيقي الكفيف، لدرجة أن تقرأ له الصحف وتشاركه الاستماع إلى موسيقاه،
ولكنه يصبح مرآة لتجربةٍ عميقة في النظر إلى جوهر الأشياء والإحساس
بأعماقها لا مظهرها. تبرز الرواية مسألةَ التحول في النظرة للمدينة وأهلها
بعد صدمة المتاعب الأولى للقادم الجديد، حيث يبدأ في اكتشاف الطبيعة
الحقيقية للناس التي تختفي تحت وطأة قسوة الحياة والتجارب المرة الماضية.
"لقد استطاعت سميحة خلال فترة وجيزة أن تكسر في داخلي ذلك الحاجز النفسي
إزاء الغرباء واطمئنت روحي إلى التعرف إليها فبحت لها بمشكلتي..أبدت
تعاطفاً معي.. كادت تدمع عيناي لفرط التأثر برقة هذه المرأة التي عرفت
منها بعد ذلك أنها كرست حياتها لأخيها ولم تتزوج". يلاحظ أن الرواية في
نصفها الثاني أخذت تركز على لسان الراوي على التأمل في تفاصيل الطقس
والشوارع والحافلات والمباني ومقتنيات البيوت، وعلى إبراز الإحساس ببعض
جوانب الجمال في المشهد من حولها.
في مشهدٍ مؤثر في
ختام الرواية، وبعد أن تحصل هدى على الموافقة للهجرة إلى أمريكا فإنها تحس
كما لو أنها لا تستطيع ترك عمان، بل صارت متعلقة بها أكثر، وهكذا تتحول
صورة عمان في نهاية الرواية من محطة ممر الى مقر. ولكنه مقر نفسي جمالي
إنساني أكثر منه مادي، يهيمن على الذاكرة ويستوطن الروح ويسند الإنسان في
الغربة، وتصبح الأشياء مصدر سعادة لا نريد أن نتركها.. "تخفّفت أعماقي من
ترسبات كثيرة وصار بإمكاني نزع القناع في شوارع عمان والمشي على طبيعتي
دون أوامر تضرب رأسي". ورغم استعدادها للسفر، إلا أن عمان تتعلق بالذاكرة
وتصبح مصدر فرح.."الآن بدأت أرى شوارع عمان بمحبة أكبر.. أشبع عيني
بتفاصيلها.. أملأ صدري بهوائها النقي. أحس بجلبة الناس في الأسواق، تلك
التي كنت أهرب منها". وهكذا تصبح عمان الملاذ والمقر النفسي الآمن وبديل
الوطن الجريح الذي ستحمله معها هدى إلى أمريكا. وتلخص تجربة عمان في نهاية
الرواية بقولها "ها أنا اكتشفت أن الغربة التي عانيتها مجرد بروفة لأيام
طويلة ستبدأ غداً".
أما الشاعر
والروائي العراقي صموئيل شمعون صاحب موقع "كيكا" الثقافي على الإنترنت
ومؤسس مجلة "بانيبال" المختصة بترجمة الأدب العربى، والذي نشرت الصحف
الأردنية قصصَ مجموعته الأولى "اليقظة المتأخرة" عام1979، فقد اتخذ من
عمان مسرحاً لجانب من أحداث روايته الأولى "عراقي فى باريس" كملاذ آمن بعد
أن تعرض بطله صموئيل لمحاولات قتل واعتقال وتهديد في بيروت ودمشق. وبدا
الأمر كأنما يريدُ الكل قتله. في عمّان استقبله بائعُ الشاى المتجول ووجد
عملاً فى الطباعة ومأوىً فى مكتب محامٍ وروائي. ثم بدأ "صموئيل" بكتابة
القصص القصيرة ونشرها فى الصحافة الأردنية. لقد أراد بطل الرواية السفر
إلى أمريكا لتحقيق حلمه فانتهى به المطاف منفياً في باريس.
وفي الختام فقد
أردتُ أن أقدمَ نماذجَ مختارةً من قراءاتي في الأدب العراقي مع التركيز
على الرواية على وجه الخصوص، والتي تمثل بعضَ جوانبِ اللوحةِ وليست كلَّها
من الإبداعات العراقية التي تبرز صورةَ المدينة في عيون الأدباء
العراقيين. والمعذرة ممن أعطى عمان بعضاً من قلمه وفاتني ذكره. ولعلني
أطمح قريباً إلى قراءة رواية عمان بصوت عراقي. فهل تبقى مجرد أمنية؟
عمّان في عيون الأدباء العراقيين
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
نحو إبراز صورة المكان في الرواية العراقية
عمّان في عيون الأدباء العراقيين
إياد نصار
* نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية عدد 264 لشهر كانون ثاني/يناير 2011
لا يسعى أدبُ
التعبيرِ عن المكان وتوظيفاتُه الى مجرد إبرازِ اكتشافِ الدهشة، أو البعد
التاريخي، أو المفارقة المكانية، أو إظهار التعبيرِ عن الحب، أو
الانتماءِ، أو الكراهيةِ، أو الحيد وحسب، وذلك في إطار البحثِ في علاقة
الأديبِ بالمكان وبالآخرينَ في فضاءات المكان، بقدرِ ما يسعى إلى خلق
وإبراز علاقةٍ تفاعلية مع المكان واستشعارِ تأثيرِه المادي والنفسي
والروحي، والى مَلءِ حيزٍ كبيرٍ شاغرٍ في الوجدان صنعته مرارةُ الغربة، أو
الحنينِ إلى الوطن، أو التعبيرِ عن عشقِِ المكان لذاته، أو الحاجةِ
الإنسانية للتعويض عن حنانِ الوطن المفقود، فيصنعُ الأديبُ من المكانِ
وطناً فعلياً أو رمزياً، يبثه المناجاةَ والبوحَ وإعلانَ الارتباط به، أو
يسعى إلى إبرازِ موقعِ الأديبِ منه، أو توظيفِ دلالاتِ المكان في السياق
الروائي أو الشعري. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسه هو ما مدى هذه العلاقةِ التي
تجمعُ الأدباءَ العراقيين بعمان؟ هل هي عابرة؟ هل هي تعويضٌ قسريٌ مؤقت عن
الفردوسِ المفقود؟ هل هي التعبيرُ عن الجنةِ الموعودةِ أمامَ جحيمِ النفي
والغربة ونكرانِ الوطن؟ هل هي تعبيرٌ إنسانيٌ خالصٌ بحد ذاته بين عاشقٍ
متيّمٍ وفاتنةٍ تفرضُ حضورَها حتى يجدَ المبدعُ نفسَه أسيرَ حكاياتِها
التي تطولُ كحكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة؟
إن علاقةَ عمان
بالأدباءِ العراقيين ليست طارئةً، ولا وليدةَ اللحظة، ولا قسريةً، ولا أظن
أنها عابرةٌ فيما اطلعتُ عليه من نصوصٍ نثريةٍ وشعرية، وسمعتُه من بوحٍ
متواصلٍ بصوتٍ عال. ولم تبدأْ هذه العلاقةُ مع الخروجِ الكبير للمثقفين
العراقيين من العراق في عهدِ النظام السابق والتي تسارعت وتيرتُها منذ
تسعينياتِ القرن الماضي. فقد كتب القاص والروائي العراقي عبد الستار ناصر،
الذي عرفته عن قرب، وأحسستُ أنه لا يستطيع أن يكتمَ حديثه عن المدنِ عشقاً
أو نفوراً، سكينةً أو ضيقاً: "جئتُها أولَ مرةٍ زائراً في عام 1964،
أتذكرُ أن فندق فيلادلفيا [أقدمُ فنادقِها منذ عام 1925 إلى أن هُدم في
عام 1988] كان قربَ المدرج الروماني، ولم تكنْ عمان آنذاك كما هي عمان
اليوم. كانت عاريةً من البنايات العالية والمتاجر الكبرى والابراج، ليس
فيها أنفاق ولا جسور معلقة... أظنها كانت أصغرَ عواصمِ الدنيا".
وكتب الأديبُ
والروائي العراقي جمعة اللامي "هذه إذن عمان.. كم تبدلتْ وتغيرتْ هذه
المدينة منذ فارقتها في شهر سبتمبر / أيلول سنة 1970" وذلك في سياق ما
نشره كجزء من حديث الذاكرة في شهر آب/أغسطس عام 2002 في مقالة بعنوان
"أيام في عمان" في جريدة الخليج الإماراتية، وكان بذلك يشير الى تلك السنة
عندما غادرها في عام 1970 بعد أن كان ينزل كما قال في: "دارةٍ فخمةٍ في
جبل التاج"، التقى فيها بالدكتور منيف الرزاز خلالَ تلك الفترةِ العصيبةِ
من تاريخِ المدينة.
وأعادت له
الذكرياتُ في ثلاثةِ مساءاتٍ متتاليةٍ قضاها في عمان في عام 2002 في بيتِ
القاص والكاتب علي السوداني، رحلةَ ثلاثةِ عقودٍ من الزمن، ووصفَ عمان
بأنها "مثآبة لشاعرٍ يغادرُ صالاتِ الاحتفالات الصاخبةِ، وبطاقاتِ
الاحزاب، ورشى المثقفين السلطويين". وقال إن علي السوداني اختارَ أن ينزلَ
قريبا مما يسميه هو "وادي السيل" في عمان. ولعل تسميةَ سقفِ السيل بدت
غريبةً له او لقارئه العربي فاستبدلها بوادي السيل، فما كان ذاتَ يوم
يعدُّ سيلَ عمان الجاري من رأس العين والذي كانت تحيطُ به أشجارُ الحورِ
والسنديانِ والسرو، قد شارف التلاشي وغُطِّيَ سقفُه بسطحٍ خرساني، وتحول
مجرى السيلِ إلى شارعٍ علوي مسقوفٍ تمر بقايا السيل الآيلِ للفناء من
تحته. يكتب بما يوحي بتلك الدرجةِ من الألفة والمعرفة والحميميةِ التي
ربطت بين السوداني وعمان: "إنه اختار بقعة لا يهتدي إليها أعرق قصاص أثر
في العاصمة الأردنية، بينما يعرف جغرافيتها بدقة ذلك العفريت العراقي الذي
نافس الهدهد في تتبع عرش بلقيس". من الواضح أن قولَهُ ينم عن تلك الطبيعة
المتداخلة والمتشابكة والصعبة لتفاصيل المدينة وتضاريسها، التي لا تمنح
ذاتها بسهولة لزائرها، وربما يكون قد وضعَ يدَهُ من غيرِ أن يدري على
مشكلةٍ كانت تؤرقُ سكانَ المدينة وزوارَها وضيوفَها منذ عقودٍ، وهي تشابكُ
وتداخلُ الطرقِِ والشعابِ ومداخلِ المدينة ومخارجِها، أضف الى ذلك غيابَ
الترقيمِ وتسميةِ الشوارعِ الفرعيةِ، والذي تمّ بشكلٍ جميل في السنتين
الاخيرتين بعد محاولاتٍ سابقةٍ غيرِ ناجحة، وما زلنا نواجُهُ ثقافةً
شعبيةً مترسخة تصنعُ الأسماء للأماكنِ بعفويةٍ من واقع علاقةٍ سابقةٍ على
العلاقة الرسميةِ بالمكان، ومن واقع معرفةٍ لصيقةٍ بمكونات المكان، من
غيرِ أن تنتظرَ علاماتِ الترقيم، ليس في الكتابة ولكن في التخطيط المدني!
لقد صار تعبيرُ
"بغدادُ انتقلت إلى عمان" مألوفاً أن تسمعَهُ يترددُ بين الأدباء في عمان.
ففي معرضِ عمّان الدولي للكتاب قبل أربعِ سنوات الذي كان زاخراً ومتألقاً
بالعناوين العراقية وحضورِ الأدباء العراقيين فقد كتب أحدُهم: "وفي لحظة
اللقاء الجماعي غير المتوقعة، بدا للجميع كأنَّ بغداد انتقلت الى عمّان".
وكتب الشاعرُ والصحافي العراقي المقيمُ في لندن حكمت الحاج خلال زيارته
لعمان: "بعد أن أسمتها الحروبُ رئةَ العراق، عمّان عاصمةً للثقافة
العراقية". وقال: "أينما حلّ العراقيون يؤسسون مدينتَهم الفاضلةَ المكونةَ
من مقهىً، ومنبرٍ ثقافي، ومطعمٍ للكباب، ... وهذا ما فعلوه في عمّان".
تستهوي حكايةُ
عمان الأولى التي ولدتْ مع فجرِ تاريخها، الذي رسم العمونيون القدماءُ
معالمَه، مثلما هي آثارُها العمونيةُ والرومانيةُ القديمةُ كجبل القلعة
وسبيل الحوريات، الأدباء العراقيين، ويشعرون كأنما يدللون المدينة بنسبتها
في كتاباتهم إلى ربّتها الأولى عمّون.
ففي كتابه
"مكاتيب عراقية"- الجزء الثاني الذي صدر في عام 2009 عن دار فضاءات للنشر
والتوزيع في عمان، يردد علي السوداني اسمَ عمون أو ربةِ عمون عشراتِ
المرات، لا بل إنه يصفُ تفاصيلَ المكان ويسردُ تاريخَه كأنما هو مؤرخٌ أو
رحّالةٌ شغفه المكانُ فأقام فيه. ولم أجدْ في كل قراءاتي عن عمان القديمة
ما هو أكثرُ ابتهاجاً باكتشافِ الأسطورة وأكثر حيويةً وجرأةً تحتفي
بالمكان، قد لا يجرؤ كثيرون من أهلها على البوح بتفاصيل مغامراتِهم في هذه
الأزقة والخبايا من أسواقها وحواريها ودروبها من كتاباتِه هو. كتب بلغة
العارف على نقيض اللامي الذي سماها وادي السيل: "جاءت بي قدماي إلى منطقةٍ
شعبيةٍ عتيقةٍ مزروعةٍ عند حاشيةِ قلبِ الربة عمون، اسمُها سقفُ السيل
وقيل إنّ لقبَها الذي ولدت عليه كان السيلُ فقط، قبل أن يجفَّ ويتلاشى
وتنضبَ أمواهُه وتموتَ أشجارُه وتغربَ نزهاتُه ويسخنَ هواؤه وتضيعَ بهجتُه
بعد أن تمّ سقفُ ما تبقى من خريرِ أيامه بالقيرِ وبالاسمنتِ وبالمشاةِ
وبالدكاكين لتطوى أخيرُ صفحاتٍ ندياتٍ من نهير عمان الوحيد. في الأسبوع
الفائت كنتُ في غزوة هناك، هواها المعلنُ هو شراءُ قندرةٍ "نص عمر"
ومثلِها بنطالٍ أو بنطلونٍ أو بنطرون افرنجي وقميصٍ أحمرَ وثانٍ أصفرَ
وثالثٍ أسودَ سارتديه تالياً في الأيام المبهجة. عثرت على ما أردت واشتهيت
بأثمانٍ سلسةٍ كأنها "أخو البلاش" بعدما متّعتُ عينيّ بوساطةِ التلصّصِ
على باب سينما "ريفولي" وحمّامِها المشهورِ وفقاً لرواية ثقةٍ من صاحبي
القصّاص العمّوني جمال القيسي، ومنها الى قبوٍ ينخسفُ تحتَ الارض بمقدارٍ
رأيته أقلَّ من ثلاثةِ أمتارٍ ومنه الى باب سوق الخضار الشمالي الذي
تنوجدُ على هامشه سوقٌ معروفةٌ باسم سوق الحرامية وهي تسميةٌ منفرة وقعتُ
عليها في غيرِ حاضرةٍ وعاصمةٍ عربية".
ولكنه لا يتركُ
تفاصيلَ كثيرةً من معالم عمان وأحيائِها ودكاكينِها ومقاهيها وعاداتِها
تمرُّ من أمام ناظريه دون أن يلتقطَها قلمُه بلغة عربيةٍ خاصةٍ به وصارتْ
من ملامحِ إبداعه يحس فيها القارىءُ المطلعُ طرافةَ وسخريةَ الجاحظ في
بخلائه، وبديعَ الحريري وسجعَه في مقاماته، وفخامةَ القلقشندي في صبح
الأعشى في صناعة الإنشا، وسرديةَ ابن بطوطة الجغرافية في تحفة النظار،
لكنها تطرحُ مضامينَ عصريةً للمدينة.
المدن كالذكريات
فمنها ما يكون ثقيلَ الوطأة كالكوابيسِ أو خفيفاً جميلاً كالأحلامِ
الهانئة، ومنها ما يخرجُ من الذاكرة كما دخلها دون أن يتركَ في لوحتها ولو
كلمة، ومنها ما يستوطنُنا فيعيشُ معنا وكلَّ يومٍ يمضي يصبحُ كالنبيذ
المعتق، الذي كلما طال أمدُه زادت قيمتُه وتعلقنا به أكثر. وقد اعتبر عبد
الستار ناصر أن عمان قدرُهُ منذ أن جاءها مقيماً عام 1999 "هل تراني أحببت
عمان؟ كيف تمكنت من البقاء بين أسواقها وبيوتها وشوارعها وحاناتها وجبالها
ومقاهيها ومكتباتها كلَّ هذا الوقت؟ سبعٌ وثمانون ألفاً وستمائةُ ساعةٍ
وأنا بين أحضانها أشمُ عطرَها ويزدادُ أصدقائي فيها يوماً بعد يوم، أصحو
وأنام على شهيقها وأشجارها، لا فرق عندي بين شارع السلط وشارع الرشيد، لا
فرق بين مقهى السنترال ومقهى الشابندر".
في كتابات عبد
الستار ناصر عن عمان هناك عنصر الغموض الذي يدفعك للبحث عن أسرارها
وخفاياها وبواطن تاريخها، بل إنه يقفُ عاجزاً عن إدراك سببِ هذا الحنين
الغريب الى المدينة عندما تكونُ فيها وتشتاقُ إليها. وتصبحُ الذكريات
العمانيةُ عنده أكثرَ من مجرد نوستالجيا إلى سنوات العمر الماضية أو الى
سعادة عاشها في أحضان المدينة، بل تصبحُ الذكريات جسوراً للتواصل بين
بغداد وعمان، بين التاريخ والجغرافيا، وبين الماضي والحاضر وبين اندفاع
الشباب وبين حكمة الكبر، كما يقدمها في تلك الثنائيات المتقابلة التي يرى
فيها صوراً بغدادية في عمان ويرى في الوقت ذاته صوراً عمانية في بغداد.
المكان في أدب عبد الستار مبهم غامض جميل لا يمنح نفسه لعاشقه بسهولة،
لدرجة أنه قال "عشت في بغداد أكثر من نصف حياتي وما زالت تبدو مبهمة
بالنسبة لي حتى اليوم". ولكنه عاشقٌ متمرسٌ مثابرٌ بلا كلل في التعرف إلى
حياة المدينة، وسبر غموضها وتعدد حالاتها التي تنعكس على حالاته النفسية.
يقول: "مدينة يتبدل ثوبها في الربيع وفي الخريف حتى لتظن أنها ليست تلك
السيدة التي جاءتك في الصيف والشتاء".
حين تحدثت
الأديبة والروائية العراقية لطفية الدليمي في حفل توقيع كتابها "يوميات
المدن" في رابطة الكتاب الأردنيين في مساء العشرين من شهر آب 2009، فقد
قالت كلاماً مؤثراً عن عمان. ولكي لا يبدو الأمرُ نوعاً من المبالغة
والمجاملات عند عقد المقارنة مع باريس التي كانت في فترة من الأوقات محج
المثقفين والمنفيين واللاجئين السياسيين العرب، فقد طرحتْ مسبقاً في
كتابها الأسئلةَ التي يمكن أن تردَ الى أذهان مستمعيها وتنطوي على عدم
التصديق أوالتكذيب أو الاتهام بالجنون. ألقت هذه التساؤلاتِ والشكوكَ على
ذاتها فقالت: "أمجنونة أنتِ؟ أواعيةٌ أنتِ لما تقولين؟ تقايضين باريس
بعمّان؟ وتجيب: "أتظنون أنها مقايضة بشرية؟ ألا يخطر لكم أنه خيار روحي
يقوم على الزهد بالمباهج؟ وتحدثتْ بمرارةٍ وبشيء من التفصيل عن البرودة
الباريسية الخطرة، عن بلاد تموت من البرد حيتانها كما قال الطيب صالح، حيث
لا أحد يهتم بك اذا لم تكن منتميا لاحزاب أو منظمات دولية تساندك. وذكرت
أيضا في حوار أجراه الزميل الأديب جعفر العقيلي أنها عانت الأمرين من
فقدان الأمن وانتشار الجرائم والسرقة التي كانت هي نفسُها إحدى ضحاياها
على أيدي عصابات كانت تملأ الحي الذي سكنت فيه من غير أن تدري: "لقد
أشبعوني رعباً وأذى وجراحاً ومنحوني يقيناً جازماً أن لا مكان لي في هذه
المدن ذات قلوب الحجر". وبأسلوب التضادات والثنائيات الذي توظفه كثيراً في
كتابها ومحاورة الذات ومواجهتها بالأسئلة المصيرية عن الأمن والخوف،
والإحساسِ بفقدان الهوية واستعادتِها، وإيقاعِ الحياة الآلي السريعِ
ورتابةِ المشهد البطيء الذي يمتليءُ حرارةً إنسانية، لا تترك لطفية
الدليمي مجالاً للشك أن لعمان بورودها وياسمينها ومطرها وكلماتها الدافئة
حباً خاصاً في قلبها وقد أعادت لها الروحَ بعد أن كادت تختنقُ في محنة
التشرد والنفي بين عواصم العالم ومدنه.
ولاحظتُ أن لطفية
الدليمي استخدمت مرة أخرى قصةَ الأسطورةِ العمونية في إقامةِ وشائجِ حبٍ
وأواصرِ قربى بين ربات الأساطير السومرية إينانا سومر ربةِ الخصبِ والجمال
ونيسابا ربةِ المعرفةِ والكتابةِ السومرية وبين ربة عمون. وإذا كان
السوداني قد جذبه قاع المدينة بزواياه وأسواقه الشعبية وأدراجه وحاناته،
فإن لطفية الدليمي قد جذبها مطرُ عمان وقهوتُها ورائحةُ أشجارها وترابُها
المندّى بالزهر في أحيائها الغربية.
عمان في عيون
لطفية الدليمي مدينةٌ عذبةٌ وسط مرارةِ المدن المبتلاة. وهي الحانية
والشافية من متلازمةِ النفي والغربةِ والعذاب. تبدو في نظرها مصدرَ حنانٍ
أسطوري بعد سنواتٍ من الترحال والغربة والخوف من الوِحدة. ووجدتْ فيها
شيئاً آخرَ غيرَ الاصدقاء والشوارع والمباني والأسواق، وهو فتوتها
وانفتاحها على الآفاق الإنسانية والثقافية، فأقامت علاقةً مع مدينة لا
تقوم على المقتنيات والماديات بل على البساطة. كتبت في الفصل الاخير من
كتابها "يوميات المدن" وتحت عنوان "عمان التي تتقن صياغة المطر" تقول:
"عودي إلى شرق الشموس ورقص الفصول في سفوحها. مزقي فرمان اللجوء المذل
وامسحي كدمات الجسد برحيق أعنابها وعالجي جرح التغرب بهبوب نسيمها الرائق
فوق الضاحية أو في حي أم السماق أو في تلاع العلي، عودي إلى دوار الحاووز
وجالسي أحلامك على مصطبةٍ تعانقُ أغصانَ الليلك، أو استدعي الصحوَ بفنجان
قهوة فادحِ الشذا عند الفاروقي أو في (فيلا كافيه)".
أما الأديبة
العراقية البريطانية أمل بورتر وفي حفل توقيع رواياتها الثلاث: "دعبول"،
"سوسن وعثمان"، و"نوّار"، والنّسخة العربيّة لكتابها "مذكّرات أميرة
بابليّة- ماري تيريز أسمر"، والذي أقيم في شهر نيسان من العام الماضي في
قاعة المدينة في مبنى أمانة عمان الكبرى في رأس العين، وحضره عدد من
المثقفين والأدباء الأردنيين والعراقيين، فقد ذكرت أن عمان جذبتها ووجدت
فيها مدينة فتية وعاصمة حديثة نسبياً. ولكنها تضجُّ بحراكٍ ثقافي أكبرِ من
عمرها.
يتكررُ توظيفُ
عمان في الكتابات العراقية بين ثنائية صورة المقر وصورة الممر. وإذا كانت
عمان كما قيل في فترة من الفترات رئةَ العراق ومنفذَه إلى العالم الخارجي
خلال سنوات الحصار، فقد عكست بعض الأعمال هذه الصورة التي تصبح عمان فيها
مجردَ محطةِ عبورٍ نحو الحرية، أو الحلم أو الاغتراب أو الهروب من جحيم
الداخل. في رواية "رقص على الماء" (أحلام وعرة) للكاتب العراقي المقيم في
السويد محمود البياتي والتي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في
عام 2006 ، فإن عمان هي مجرد محطة لعبدو العراقي الذي سيحضر من السويد
للزواج من بنت خاله التي ستحضر من بغداد، وكما تقول الرواية "إنقاذاً لها
من جحيم الحصار في العراق".
وفي روايته
الأولى "حليب المارينز"، يقدم عواد علي عمان في صورة الممر أيضاً. سامر
الأربعيني اللاجيء في مخيم رفحا للاجئين العراقيين يساعده صديق سعودي في
الهرب من المخيم فيجد نفسه في الساحة الهاشمية في عمان، التي يبقى فيها
ثلاثة اشهر متخفّياً يبحثُ عن مخرجٍ الى الحرية والبحث عن علاج لضمور
كليتيه. وأخيراً جاء المخرجُ عبر مزوّرٍ للجوازات الذي استطاع من خلالِه
أن يحصل على فيزا الى قبرص، ومنها إلى بيروت قبل أن يصل كندا محطته
الأخيرة.
كما يتناول صورةَ
المدينة في مشهدٍ آخر من مشاهدِ عمان الممر. فساهر الشاب الفنان النحات
يرسلُ لأخيه الاكبر سامر مع أمه التي تأتي الى عمان منحوتةً صغيرةً لإمرأة
يحط على رأسها طائرُ رخمة ويشبك مخالبَه على وجهها، فيلتقيان في عمان، ثم
لا يلبث أن يحمل سامر معه المنحوتة الى كندا، وهناك تعجب بها روزا
العراقية التي انتهى بها المطاف مهاجرة أيضاً إلى كندا فيهديها إياها كرد
للجميل.
أما القاصةُ
والروائية هدية حسين فانها تجعلُ من عمان مسرحاً لروايتها "ما بعد الحب"
التي أصدرتها عام 2003، رغم أن تداعي الذكريات يعود بنا في كثيرٍ من
الاحيان الى العراق لاستعادة ماضي الشخصيات وإبرازِ مشاهد المعاناة في
الوطن. وهي من الروايات القليلة التي تعطي عمان مساحةً كبيرة تتعدى مجردَ
كونها مكاناً حاضناً للشخصيات والحدث. "ما بعد الحب" شخصياتها عراقية
وأردنية، تربط بينهم علاقات مختلفة في أماكن متعددة من عمان. لم يعد
أبطالها عراقيين وحسب، بل هناك شخوص أردنية رئيسة لها مشكلاتها وواقعها
القاسي ومعاناتها النفسية التي تنجح الكاتبة أن تجعلها لا تقلُّ تشويقاً
وتعاطفاً من القارىء معها مثل سميحة وأخيها الموسيقي الكفيف سامح. ولكن
المدينة لم تعد مجرد ممرٍ نحو بوابة الحرية أو الهجرة أو الهروب، بل هي
ممر ومقر مفتوح على احتمالات متعددة في الوقت ذاته. تلتقي هدى الهاربة من
العراق ـ لخوفها من البطش لأنها قالت (لا) للزعيم ـ بنادية في مصادفة غير
متوقعة، وهما في خضم البحث عن ملابس قديمة. تنتظر هدى ونادية موافقة
المفوضية على اللجوء إلى دول أخرى، ولكن المسألة طويلة ويتكرر الرفض مرات
كثيرة، وهكذا تضطران للبقاء والتكيف مع الحياة الجديدة في عمان. وإذا كانت
الساحةُ الهاشمية هي مكان اللقاء عند عواد علي بصفتها المحطة الرئيسة التي
ترتبط في أذهان الأردنيين والعرب بوسط المدينة، فإنها في "ما بعد الحب"
تصبح مجمع العبدلي المكتظ بالسيارات والناس وباعة الملابس المستعملة
والمتسولين وباعة الخضار وأكشاك الأكل السريع. تبرز الرواية الصورة
النمطية للمدينة في أذهان الكثيرين الذين تتكرر وتتشابه حكاياتهم ومآسيهم،
والتي تلخصها الرواية في نقطتين: إنها بوابة الهروب من الجحيم، وهي مدينة
قاسية ليس فيها فرص عمل للقادمين. تورد الرواية أسماء عددٍ من الاحياء
والأماكن التي تجري فيها أحداث الرواية في المكان الأردني، مثل جبل
الحسين، وجبل عمان، والجندويل، وطلعة المصدار، ومقبرة سحاب، وسقف السيل،
وغيرها. تبدو عمان في الرواية مكاناً بعيدا عن الرومانسية والبهجة كما هو
الحال في يوميات لطفية الدليمي، بل تصبح فضاءً للمعاناة بصور عدة من مثل
ظروف السكن البائس، وصعوبة التنقل، والغلاء، والأعمال الوضيعة التي تسبب
الإحساس بالذل، عندما تجبر الظروف هدى لتعملَ خادمة ترعى شؤون سامح
الموسيقي الكفيف، لدرجة أن تقرأ له الصحف وتشاركه الاستماع إلى موسيقاه،
ولكنه يصبح مرآة لتجربةٍ عميقة في النظر إلى جوهر الأشياء والإحساس
بأعماقها لا مظهرها. تبرز الرواية مسألةَ التحول في النظرة للمدينة وأهلها
بعد صدمة المتاعب الأولى للقادم الجديد، حيث يبدأ في اكتشاف الطبيعة
الحقيقية للناس التي تختفي تحت وطأة قسوة الحياة والتجارب المرة الماضية.
"لقد استطاعت سميحة خلال فترة وجيزة أن تكسر في داخلي ذلك الحاجز النفسي
إزاء الغرباء واطمئنت روحي إلى التعرف إليها فبحت لها بمشكلتي..أبدت
تعاطفاً معي.. كادت تدمع عيناي لفرط التأثر برقة هذه المرأة التي عرفت
منها بعد ذلك أنها كرست حياتها لأخيها ولم تتزوج". يلاحظ أن الرواية في
نصفها الثاني أخذت تركز على لسان الراوي على التأمل في تفاصيل الطقس
والشوارع والحافلات والمباني ومقتنيات البيوت، وعلى إبراز الإحساس ببعض
جوانب الجمال في المشهد من حولها.
في مشهدٍ مؤثر في
ختام الرواية، وبعد أن تحصل هدى على الموافقة للهجرة إلى أمريكا فإنها تحس
كما لو أنها لا تستطيع ترك عمان، بل صارت متعلقة بها أكثر، وهكذا تتحول
صورة عمان في نهاية الرواية من محطة ممر الى مقر. ولكنه مقر نفسي جمالي
إنساني أكثر منه مادي، يهيمن على الذاكرة ويستوطن الروح ويسند الإنسان في
الغربة، وتصبح الأشياء مصدر سعادة لا نريد أن نتركها.. "تخفّفت أعماقي من
ترسبات كثيرة وصار بإمكاني نزع القناع في شوارع عمان والمشي على طبيعتي
دون أوامر تضرب رأسي". ورغم استعدادها للسفر، إلا أن عمان تتعلق بالذاكرة
وتصبح مصدر فرح.."الآن بدأت أرى شوارع عمان بمحبة أكبر.. أشبع عيني
بتفاصيلها.. أملأ صدري بهوائها النقي. أحس بجلبة الناس في الأسواق، تلك
التي كنت أهرب منها". وهكذا تصبح عمان الملاذ والمقر النفسي الآمن وبديل
الوطن الجريح الذي ستحمله معها هدى إلى أمريكا. وتلخص تجربة عمان في نهاية
الرواية بقولها "ها أنا اكتشفت أن الغربة التي عانيتها مجرد بروفة لأيام
طويلة ستبدأ غداً".
أما الشاعر
والروائي العراقي صموئيل شمعون صاحب موقع "كيكا" الثقافي على الإنترنت
ومؤسس مجلة "بانيبال" المختصة بترجمة الأدب العربى، والذي نشرت الصحف
الأردنية قصصَ مجموعته الأولى "اليقظة المتأخرة" عام1979، فقد اتخذ من
عمان مسرحاً لجانب من أحداث روايته الأولى "عراقي فى باريس" كملاذ آمن بعد
أن تعرض بطله صموئيل لمحاولات قتل واعتقال وتهديد في بيروت ودمشق. وبدا
الأمر كأنما يريدُ الكل قتله. في عمّان استقبله بائعُ الشاى المتجول ووجد
عملاً فى الطباعة ومأوىً فى مكتب محامٍ وروائي. ثم بدأ "صموئيل" بكتابة
القصص القصيرة ونشرها فى الصحافة الأردنية. لقد أراد بطل الرواية السفر
إلى أمريكا لتحقيق حلمه فانتهى به المطاف منفياً في باريس.
وفي الختام فقد
أردتُ أن أقدمَ نماذجَ مختارةً من قراءاتي في الأدب العراقي مع التركيز
على الرواية على وجه الخصوص، والتي تمثل بعضَ جوانبِ اللوحةِ وليست كلَّها
من الإبداعات العراقية التي تبرز صورةَ المدينة في عيون الأدباء
العراقيين. والمعذرة ممن أعطى عمان بعضاً من قلمه وفاتني ذكره. ولعلني
أطمح قريباً إلى قراءة رواية عمان بصوت عراقي. فهل تبقى مجرد أمنية؟
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس مارس 14, 2024 7:21 am من طرف راوية رياض الصمادي
» مدينة أوزونغول
الأحد يوليو 26, 2015 10:31 am من طرف راوية رياض الصمادي
» مدينة ترابزون
الأحد يوليو 26, 2015 10:27 am من طرف راوية رياض الصمادي
» مدينة أسطنبول
السبت يوليو 25, 2015 4:04 pm من طرف راوية رياض الصمادي
» خريطة تركيا بشكل عام
السبت يوليو 25, 2015 3:06 pm من طرف راوية رياض الصمادي
» تحميل و تثبيت لعبة Tomb Raider 2013 عربية كامله
الأحد نوفمبر 02, 2014 5:01 pm من طرف راوية رياض الصمادي
» كلمات رائعه قيلت عن المراة
الأحد سبتمبر 08, 2013 4:02 pm من طرف SEHOT
» لله درك من ملك
الأحد سبتمبر 08, 2013 3:52 pm من طرف SEHOT
» يـاشـيـن كــســرت خــاطــره وانـدمـارتــه
الأحد سبتمبر 08, 2013 2:26 pm من طرف SEHOT